أقوى من النسيان

لم يكن يعيقنا عائق ونحن نعبر طرقات البلد نحو الحواكير ومنها إلى الحقول الواسعة، متسلحين بالنقاقيف والفخاخ. مقتطفات مختارة من السيرة الذاتية لنمر مرقص.

1

في العاشرة إستهواني صيد العصافير وأشغل كل أوقات فراغي. شاركت وشاركني فيه اتراب لي أولعوا مثلي بهذه الهواية… سامي وإيليا وحنا وميخائيل وسبع، مع بعضهم كنت أخرج للصيد بالنقيفة ومع الآخرين للصيد بالفخة أو بالدبكيات.

الدبكيات كانت أداة صيدنا للبلابل وديك السمن والشحيتة وأبو الحنّ في موسم الشتاء، حيث تتلطى هذه العصافير بين ألواح اشجار الصبر في الحواكير وتتغذى من بقايا أكوازه التي لا يطالها الناس في موسمها الصيفي، أو من هوام بينها وقربها.

تحفر حفرة بحجم أصغر قليلاً من لوح الصبر. ونرفع فوقه لوح الصبر من طرف واحد على عود رفيع فيغدو مع الجورة كالفم المفتوح. وتحته في مؤخرة الجورة نضع شقفة من كوز صبر، أو ننعف بضع حبات من القمح أو الذرة، تغري العصفور بدخول الجورة ماساً  العود الحامل للوح الصبر فيتخلخل ويسقط، فيسقط معه اللوح فوق الجورة ويطبق على ما تحته فلا يجد العصفور مخرجاً. ونحتال للإمساك به رافعين اللوح بحذر، ولم يكن نادراً أن يفلت منا عندما نتسرع برفع اللوح.

لم يكن يعيقنا عائق ونحن نعبر طرقات البلد نحو الحواكير ومنها إلى الحقول الواسعة، متسلحين بالنقاقيف والفخاخ، نبدأ بعصافير الدوري الواقفة على أطراف السطوح. وقد غدت مع الأيام تعرفنا فتزداد حذراً تجاهنا، فلا يقر لها قرار في وقوفها على أطراف السطوح، وتفر مبتعدة.

كنا نعتمد على الصيد بالفخاخ خلال فصل الصيف وبدايات الخريف إذ يتوفر الدود- الطعم الذي نضعه في فخاخنا. نأخذه من قصلات الذرة البيضاء ومن قصلات الخرفيش، ونعتمد أكثر على النقيفة في أشهر الربيع ومطلع الصيف حيث يقل هذا الطعم. ومع الوقت تركت الصيد بالدبكيات وبالفخة بعد أن أتقنت الصيد بالنقيفة، فلا تنطلق منها بحصة حصى إلا وتصيب الهدف، إلا في ما ندر وخاصة في موسم التوت عندما تنضج ثماره وتعج شجراته بالعصافير.

إستمر ولعي بصيد العصافير بضع سنوات حى وقعت لي حادثة ردعتني عنه نهائياً. كنت آنئذ قد تجاوزت الثالثة عشرة بقليل. وكنت مع صديقي ميخائيل في جولة صيد في أواخر الربيع. وكان معظم الطيور قد عششت وأفرخت وطار ما في أعشاشها.

في احدى حواكير البلد المغروسة تيناً وزيتوناً  فوجئنا بعصفور حميمري يرفض الطيران هرباً منا كما سواه. طار وأبتعد قليلاً وعاد إلى مكانه القريب جداً منا. وفي إبتعاده وعودته كان يزعق زعيق المرعوب… يرفرف ويشوبق  ويزعق بالقرب من الزيتونة التي نقف عندها. 

مثل هذا الفعل تعودناه من العصافير إذا إكتشفت بومة أو حية في مكان ما. ولكنني ورفيقي لم نلحظ وجوداً  لاي من عدوي العصافير هذين قربنا.

مددْت مطاط نقيفتي وأطلقت بحصة حصى منها نحو العصفور فسقط بلا حراك، فجّرت البحصة راسه.

بعد لحظات إكتشفنا على الزيتونة التي وقفنا بقربها عشاً لهذا العصفور، فيه ما زالت فراخه غير القادرة على الطيران بعد. ففهمنا عندها إستقتال هذا العصفور الأم الضعيف. كانت أماً تذود عن بيتها وصغارها بكل ما وهبتها الطبيعة من وسائل. قتلت وهي تدافع. ولكن أين وسائلها من وسائل الإنسان ووحشيته؟! وهل كان ذنبها أن إٍستقتلت بدفاعها؟ وهل كان بإمكانه أن تترك أولادها وتهرب سالمة بريشها؟! وهل يمكن لقلب الأم أن يسمح بتصرف نذل كهذا؟!

وعدت إلى البيت حزيناً مكموداً. وكانت تلك آخر طلعة لي لصيد العصافير.

وفي عدة أحداث عشتها وواجهتها في قادم السنين. بعد أن كبرت، تذكرت تلك العصفورة الأم. وكان نموذجها يفرفر في فكري وضميري. فلم أخن واجباً ولا هربت لاسلم بريشي، عندما كان الخطر يحدق بمن ورائي.

2

في السنة الثانية لدراستي في ثانوية عكا الحكومية، إنتكبنا أترابي وأنا بتغير معلم اللغة العربية ناصر العيسى بمعلم آخر أسمه رفيق اللبابيدي.

الأسابيع الأولى من سنتنا هذه كانت كافية لنكتشف خصاله المقيتة، كان متعجرفاً فظاً ومتشاوفاً وفوق ذلك بدأنا نلمس كيف يميز ضدنا نحن الطلاب القرويين لأننا كذلك ويُمالئ بعضاً من أترابنا في الصف مهما فعلوا دراسة أو تصرفاً فقد كانوا من أبناء أرستقراطيي عكا، وإثنان منهم إبنان لوجيهين غنيين في إثنتين من قرى القضاء، كان يمارس ذلك على المكشوف ودون ادنى تحفظ أو خجل من أن نلمس ذلك.

إستخفافه بنا وإزدراؤه لنا نحن طلاب القرى كان بيّناً أيضاً، تماما كنظرة وتعامل مجتمع عكا الإرستقراطي مع أهلنا الفلاحين، وكان مؤلماً أن يتغلغل هذا التعامل وهذه النظرة إلى نفسية فقراء المدينة وبسطائها.

بهذه النفسية كان يتطلع إلينا معلمنا رفيق اللبابيدي، فكرهته من قراقيح القلب على هذا التعامل معي ومع أترابي القرويين. وإزداد  كرهي بعدما رفض إعطائي العلامة التي إستحقها في إمتحان اللغة في نهاية الفصل الثاني. وعندما ذهبت لمراجعته مطالباً بتعديل العلامة تطلع إليّ شزراً، تأمل ورقة الإمتحان والعلامة عليها ثم عاد وتأملني وقال، إنك لا تستحق حتى هذه العلامة!

حكيت ما حدث لي لبعض أترابي، وجدتهم يكنّون ما أكن لنفس هذا المعلم، وقال أحدهم، سمعت أن هذا المعلم تصادم بسبب تشاوفه وعجرفته مع شاعر فلسطين إبراهيم طوقان. وأن إبراهيم هجاه بقصيدة أحفظ منها مطلعها..

           “أم رفيق ولدته من ورا       أما ترى في وجهه أثر الخر..!

فازددت تعلقاً بإبراهيم طوقان الذي كنا نحفظ له نشيد “نحن الشباب لنا الغد..” ونستمتع بقصيدته “الثلاثاء الحمراء” ونعرف أبياتاً من غزليته بصبايا كفركنا، ومن قصيدته التي عارض فيها قصيدة أحمد شوقي “قم للمعلم وفه التبجيلا.. كاد المعلم أن يكون رسولا”.

ترى لو عرف شوقي معلمنا هذا أكان يصر على ما قال؟!

وقبل إنتهاء السنة كنا شهوداً على إنفجار التوتر بين مدير مدرستنا سامي العيد وبين هذا المعلم المتعجرف الفظ، وسمعنا أن هذا المعلم حاك المؤامرات وآستثارَ أرستقراطيي عكا ضد المدير ومن منطلق طائفي، وبهدف إستبعاده عن المدرسة ليحل بدله في إدارة المدرسة.

لم نكن نعرف، ولا إهتممت أن أعرف إلى أية طائفة كان ينتمي مديرنا سامي العيد، ولكن ما سمعناه عند إنفجار التوتر عرفنا بأنه ينتمي إلى طائفة الموحدين الدروز. وقد إنحزنا إليه بقلوبنا كإنسان مستقيم، شهم ومعطاء ومعتدى عليه.

3

الإستعلاء والإستهتار اللذين كانا يبديهما أفندية عكا وأرستقراطيوها تجاه القرويين عكس أثره على الآخيرين وإستنفر منهم ردود فعل تجسدت بنكات ونوادر ضد أولئك. 

ذات يوم جاء أبو حكمت، تاجر الزيت من جارتنا عمقا، إلى بيتنا ليشتري زيت الموسم الأخير من الوالد، وأثناء تناول قهوة الضيافة راح يشكو للوالد ما كان يعانيه من شطارات تجار عكا ومن تشاوف أفنديتها الذين يبيع لهم الزيت، عليه كفلاح، يروي ما حدث له مع هذا وما جرى له مع ذالك. “ولكني إستديّت يا بو ذيب..” قال”إسألني كيف؟” ولم ينتظر من الوالد أن يسأله. “فسألني كيف” هذه محط كلام، وتابع يحكي كيف وهو خارج من بوابة عكا في عصر أحد الأيام بعد أن باع نقلة الزيت، صادف أفندياً، فطقت برآسه آن يسخر من هذا الأفندي.فإستوقفه سائلاً:”قديش الساعة يا أفندي؟ فأجابه هذا، الرابعة والنصف، يعني قديش بعد للغياب يا أفندي؟ نص ساعة… أجابه. فضرب أبو حكمت كفاً بكف مبدياً  الإنزعاج الشديد وتوجه إلى الأفندي متوسلاً “بحياتك يا أفندي، أبوس إيدك، أخرّ لي الساعة ساعة حتى أقدر أصل للبلد على الفضا”.

صفن الأفندي متفاجئاً من غشمنة هذا الفلاح… أما أنا ففقست بالضحك وكددت بغلتي مسرعاً حتى لا يلحق بي بعد أن إكتشف قصدي.

وضحك الوالد ملء فمه ورئتيه وقال: “الله يهدك يا بو حكمت منين بتجيب هالحكي”، 

4

كان أرستوقراطيو عكا وأفنديتها يعتمرون الطربوش على رؤوسهم مواصلين هذا التقليد الذي ورثوه عن الأتراك، أما في القرى فكانت الحطة أو الحطة والعقال هما السائدان كغطاء للرأس. إلا قلائل ونادرين من الرجال فيها ممن تعلموا، أو عاشوا في المدن لسبب ما، كانوا يعتمرون الطرابيش.

كان الفلاحون في ايام ثورة 1936، التي منهم كان مناضلوها، قد إستغلوا نفوذهم فيها ووجهوا  طعنة لتشاوف أفندية عكا عليهم، ألبس أحدهم طربوشاً على رأس حمار وطاف به في سوق عكا وهو يردح “حطة وعقال بسبع قروش والحمار لابس طربوش”.

وسرت هذه الردة بين الناس كسريان النار بالهشيم، ورددوها حتى عاف الأفندية طرابيشهم.

وقيل أن وراء هذه الدفشة بعض الأفندية من تجار الأقمشة الذين بحثوا لأنفسهم عن مزيد من الأرباح من بيع الحطات والعقل.

5

قبيل إنتهاء عطلة المدارس الصيفية سمعت إن دائرة ا لمعارف بحاجة إلى معلمين إضافيين  اي لم ينهوا تأهيلهم. فقصدت حيفا مجدداً وإستدللت على مكتب الدائرة الذي كان قائماً في شارع جانبي متفرع عن شارع اللنبي.

هناك قابلت المفتش المسؤول جميل الزنانيري، وعرضت عليه طلبي. تأملني هنيهة وتناول شهادتي المدرسية وفحصها، ثم قال، إذهب وإستعد للعمل في مدرسة دالية الكرمل، وسلمني كتاب التعيين، فعدت إلى البيت منشرحاً  فقد إنحلّت عقدتي- وبالأحرى عقدة الأهل  وها أنا بعد أسبوع سأغدو موظفاً حكومياً.

كنت آنذاك قد بلغت السادسة عشرة والنصف.

في اليوم الذي يسبق إفتتاح السنة المدرسية، حملت بمرافقة الوالدة فراشاً وأدوات منزلية وطاولة صغيرة ويممنا نحو دالية الكرمل، التي لم نكن نعرف منها سوى أسمها، وأن فيها يسكن منذ سنوات أمين خير، إبن بلدنا، الذي يعمل معلماً في مدرستها وغدا واحداً من أهلها.

حال وصولنا إلى دالية الكرمل، وبمساعدة إبن بلدنا، توفقنا في إيجاد غرفة ملائمة للإيجار، في طرف القرية الشرقي آنذاك، وقريباً من الشارع العام، لدى أبو سامي يوسف مشيلح.

كان عليّ أن أقضي أسبوعاً وأحياناً أسبوعين في مكان عملي، لأعود إلى البلد لرؤية من وما أشتاق إليه فيها، وللتزود بما كانت تعده لي الوالدة من مؤونة وثياب، فآنذاك كان باص وحيد يغادر دالية الكرمل صباح كل يوم إلى حيفا ويعود إليها عصراً.

عملت وعشت في الدالية قرابة السنتين، وخلالهما تعرفت على بقعة جديدة، من أرض الوطن… الكرمل، الرهيب الجمال، وقراه القريبة من مكان سكناي. أم الزينات، بلد زميلي في ثانوية عكا، عبد اللطيف حردان وإبراهيم الفحماوي، وإلى شرقها دير المحرقة المطل على مرج إبن عامر الفسيح المتماوج الخضرة. وعلى عسفيا التي  كنت أزورها أيام العطل للقاء بزملاء في المهنة من منطقتنا  نعيم الخوري البعناوي وصالح نبواني من جولس، وحنا مبدى ورزق الله نعمة الله عطا الله الأقرثاويين. ونخرج أحياناً  في شطحات إلى أحضان أحراش الكرمل في ظاهر عسفيا، ينكشف أمامنا خليج حيفا وميناؤها، وسهل عكا بمعظمه لوحة رائعة الجمال.

وعن بعد تعرفت على دالية الروحا، وأخواتها وبينها  صبارين بلد زميلي وصديقي في ثانوية عكا، علي الحسين، الدمث الصامت الهادئ وعن بعد أيضاً عرفوني على القرى في الساحل جنوبي حيفا، الفريديس، وعين حوض وجبع وأجزم وعين غزال والطنطورة بلد صديقي في ثانوية عكا عبد الرزاق اليحيى، وعلى زمارين التي حملت إسم زخرون يعقوب بعد أن تملكها “البارون الكريم” دي روتشلد وأقام فيها أقبية النبيذ لموائد الأوربيين.

 في نهاية الحارة الغربية من دالية الكرمل، وغير بعيد عن بيوتها، كانت تقوم دار من طراز غريب عن طراز البناء في قرانا، شبيهة بأسلوب بنائها بما إبتنته بعثة الإنجليز التبشيرية في بلدنا، وحول الدار أرض واسعة ومسيجة جيداً مغروس فيها مختلف أنواع الاشجار المثمرة، زيتون وتين وأشجار فواكه متنوعة. كان يسكن في جزء من الدار العم أبو فرنسيس وعائلته وهم شفاعمريون يخدمون الأرض ومغروساتها، أما الذي إبتنى هذه الدار في أواخر القرن التاسع عشر فهو إنجليزي إسمه لورنس أوليفانت، وقد جاء فلسطين أيام الحكم العثماني لا بإسم المسيح ولا بحجة التبشير به، كما كان غطاء البعثة الإنجليزية التي إستوطنت بلدنا، وإنما بإسم البحث العلمي في أثار وجغرافية فلسطين، وكان واحداً من عشرات أفراد وطواقم التبشير والمسح والبحث العلمي الإنجليز الذين مهدوا لإستعمار دولتهم العظمى لفلسطين.

في الطابق العلوي من هذه الدار كان يسكن مدير مدرستنا أو مديرنا، سامي خوري جرايسي من الناصرة، وكنا زملائي وأنا من المعلمين في مدرسة القرية، نزوره في بعض الأماسي للعب الورق، وبعضنا للعب الطاولة الشيش بيش، وكان عادل غزال أحد زملائنا، النابلسي، يصنع أنواعاً من الحلوى بدراية نابلسية مشهورة، ونأكل مما يصنع غالبين كنا أو مغلوبين.

6

وسمعت من جاري أبو سامي، الذي أجرني الغرفة التي سكنت فيها، إن العمل في حيفا بالنسبة لأهل قريتهم كان مصدر رزق الكثيرين من أهل القرية منذ حوالي العقدين فهو والعديد من أبناء جيله وبلده إشتغلوا في بناء مينائها الحديث، عندما قرر الإنجليز توسيعه وعصرنته، وروى لي كيف إستخلصوا من البحر شريطاً عريضاً من الأرض قام عليه فيما بعد شارع الميناء ومرافقه والأبنية العديدة وجزء من شارع الملوك الذي حمل فيما بعد إسم شارع الإستقلال.

أهل دالية الكرمل كانوا جميعاً من طائفة الموحدين الدروز، ومتمسكين بما لهذه الطائفة من تقاليد وشيم. وكان يعيش بينهم بعض الأغراب، أبو فرنسيس الموكل بدار الخواجا الإنجليزي وليفنت، والحداد، السمكري، أبو يوسف الأرمني وسليم زخريان، الكندرجي الأرمني ومعلمو المدرسة الآتون من خارج القرية وبينهم أنا، ولم يشعر هؤلا بغربة بين الأهالي نظراً لتعاملهم الطيب والودود، وبالنسبة لي لم أشعر غربة عن جو القرية وعادات وتقاليد أهلها وأزياء ملابسهم التقليدية، ففي بلدنا  تعيش عدة عائلات درزية تربط أهلي بها روابط صداقة، بالإضافة إلى علاقة أهل البلد ببعضهم البعض. وفي جوار بلدنا قرى مثل دالية الكرمل، جميع أهلها من طائفة الموحدين الدروز. ولبيتنا علاقات واسعة معها. 

كون أهالي القرية من طائفة واحدة لم يمنع وجود إنقسامات بينهم أو نشوب صراعات على زعامة البلد، ولا أن تنوجد شريحة فقيرة واسعة من الأهالي.

وكان جاري أبو سامي من هذه الشريحة، وهو بناء في مهنته، ولكنه لم يكن يجد العمل الدائم فيها، ويقضي معظم السنة عاطلاً عن العمل، فيلجأ إلى صناعة الفحم من السنديان المنتشر في الوعر قريباً من القرية، ويبيع منتوجه في القرية، وفي حيفا بالأساس، ويلجأ أحياناً إلى صيد الحيوانات البرية التي تؤكل، أو إلى إشتيار العسل  من المناحل الطبيعية في صخور جبال الكرمل، وفي الحالتين يبيع ما يفيض عن حاجة البيت.

كان والده المسن، راضي مشيلح الذي يسكن وزوجته في غرفة مجاورة لدار أبو سامي يفصل بينهما طريق، صاحب نكتة وذا موهبة في سرد النوادر الساخرة، والمقذعة أحياناً، وخاصة تلك التي تدور على ذوي الزعامة والجاه، من بلده وخارجها. وكنت أقصد مجلسه أحياناً في عصارى الأيام وأكون مستمعاً وكان هذا المجلس ينعقد داخل غرفته أو في الساحة التي أمامها حسب الطقس.

عندما كان أبو محمد راضي يفحش بالنكتة و يصل إلى الزنار ونازل تلكشه أم محمد زوجته قائلة “بكفي يا بو محمد…عيب.. صرت جداً”. لم يكن يكف كان ينتقم لحاله ولأمثاله من زعامات تستهتر به وبهم، نظراً لفقرهم.

7

يوم الإستراحة الأسبوعي الأول من بداية كل شهر، كان يوماً خاصاً لي ولزملائي المعلمين، ننزل فيه صباحاً إلى حيفا لنقبض رواتبنا من بنك باركليز في ساحة بلومر بحيفا. ونقضي بضع ساعات في المدينة إلى أن يحين موعد عودة ا لباص إلى الدالية عصراً، نقوم بجولات تسوق في الأسواق العامرة التي كانت تمتد من ساحة الحناطير غرباً حتى جامع الإستقلال وعامود فيصل شرقاً، نتناول وجبة فول أو حمص في أحد المطاعم الشعبية المزدحمة ونجلس على فنجان قهوة في المقهى المشرف على ساحة الحناطير من  طرفها الشرقي.

لم نكن ندري ولا غيرنا كان يدري، إن هذه الأسواق العامرة وضمنها سوق الشوام، زينة هذه الاسواق الذي كانوا يقصدونه لكسوة العرائس، حتى من بلدنا البعيدة، ستغدو  ركاماً بعد سنتين، وساحة الحناطير ستبدل إسمها إلى ساحة باريس، ولكن هذا ما حدث، وعلى هذه الرقعة من أرض حيفا الجميلة أنشأ سادة الحضارة الجديدة- حضارة الراسمال المجنون إلى الربح- بضع بنايات ضخمة من الباطون المسلح لمكاتب بنوكهم وشركاتهم، هدموا الأسواق والمنازل وجرفوها حتى الأساسات، وتركوا للخداع مسجدي الجرينة والإستقلال وكنيسة الروم الأورثوذكس، وكأنهم يحترمون بيوت العبادة ومشاعر المؤمنين ويا ليت هؤلاء الشهود الثلاثة ينطقون ليرووا لكم ما كان، فتشعروا بما أشعره وأبناء جيلي تجاه هذه الرقعة من حيفا وعمق مأساتها.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *