ذلك البيت

لقد ماتت البيوت، ماتت دون جنازة، ماتت دون أسماء في الجريدة، ماتت دون قبر نضع عليه وردة صفراء ذات يوم حين تخطر لنا فكرة الحنين.. نصوص للشاعر الغزي خالد جمعة.

أعرفهم ولا أعرفهم

غزة، أعرف كل شبر فيها، سكانها أعرفهم واحداً واحداً، ولو لم أعرفهم، بائع العصير عرفته ولم أكن اعرف اسمه، صديق صديقي عرفته، ولم أكن أعرفه، صاحب محل الخضرة الذي كان يضع حزمتَيّ بصل وجرجير بعد الحساب لم أعرفه، سائق التاكسي عرفته كل يوم ولم أعرفه، الرجل الذي يصلح الحنفيات عرفته ولم أعرفه، تلك التي تمر كل يوم بكتب على صدرها، عرفتها ولم أعرفها، زوجة صاحب البيت عرفتها ولم أعرفها، المؤذن ذو الصوت المزعج عرفته ولم أعرفه، واضع الأختام على رخص السيارات عرفته ولم أعرفه، نادل المقهى عرفته ولم أعرفه، كلهم كلهم، ربما ماتوا في الحرب، وربما جميعهم أحياء، وربما مات بعضهم ولم يمت بعضهم الآخر، فكيف لي أن أعرف، وأنا لم أعرف أسماءهم؟

لقد هُدِم بيتي وأنا في الخامسة من عمري، هدمه الجنرال شارون في العام 1971، وبالرغم من مرور كل تلك السنوات، وكلّ البيوت التي سكنتُها، فما زال ذلك البيت يسكنني إلى اليوم، بالضبط كما يسكنني جميع الذين ربيت معهم ذكريات وغادروا هذا العالم، لذلك، هل يظل السؤال قائماً عن سبب قصف إسرائيل للبيوت؟

ماذا أقول؟

يصيبني الجنون، فأرسل لصديقي رسالةً:

صديقي الذي من قلقٍ ولغة

ماذا سأقول؟

هل أقول إن البيوت، تلك التي جلست في لغتي ولغتك كأماكن ذكريات بعيدة، قد ماتت؟

ربما تكون بيوتاً تافهة، بيوتاً يهبط رمل حيطانها على رأسك إذا اتكأت بظهرك عليها أكثر مما يجب، وربما أن حُفراً للفئران فيها أكثر من مساحة الإسمنت، وربما تكون بيوتاً تصلح لتأوي متسللين من دولة أفريقية فقيرة إلى دولة أفريقية أشد فقراً، ولكنها حاضنة ذكرياتنا، وموتها يعني موت جزء منا، لقد ماتت البيوت، ماتت دون جنازة، ماتت دون أسماء في الجريدة، ماتت دون قبر نضع عليه وردة صفراء ذات يوم حين تخطر لنا فكرة الحنين، ماتت، ماذا أقول؟

عمل للفنان شادي طوافرة

هل أقول إنه كان عليك أن تؤجل غضبك وحقدك وانفجارك وحزنك ودمعك وجوعك ورفة روحك وأسماء شهدائك ولوعة عينيك من المشهد وانتفاضة روحك مع صورة كل طفل وضجيج قلبك مع كل صوت يأتيك من غزة ليقول لك: أنا خائف، الطائرة مرعبة، لا لا، الدبابة أكثر رعباً… وهي تحاول أن تقول له إنك اتصلت مع الله في مكالمة قصيرة وقال لك إنه لن يأخذ هذا الصوت على الأقل الآن، ويؤلمك أن يغلق الهاتف ومحدّثك يصدق ما قلت كي يستطيع النوم لنصف ساعة قبل أن يعاود الرعب مرة أخرى؟ ماذا أقول؟

هل أقول إن كل النقاشات التي كانت تدور مع وضد وفي وعلى وبين وفوق وتحت، كان شهيد يسقط تحت كل فاصلة فيها، بين النقطة والحرف، بين إشارة اليد والصوت، وأنك بمجرد الانتهاء من كتابة جملة من أربع كلمات يسقط خمسة شهداء، فلا تعرف أين تضع الشهيد الخامس، فإن فكرت أن تضيف كلمة خامسة لكي تحل المشكلة، يسقط أثناءها شهيدان آخران، فتقع في مشكلة جديدة؟ ماذا أقول؟

هل أقول إنني مخذول من الساسة والجماهير والعالم والملائكة والشياطين والكلاب والصراصير والهواء والسماء والغيم والليل والصوت والأكل والماء والنساء والرجال والموت والحياة تقريباً بنفس الدرجة؟ أم أقول إن البكاء صار ترفاً يشبه أن تجلس على الريفيرا ذات صيف خالياً من كل ارتباط بأي شيء أو أي شخص أو مبدأ أو كلام؟ ماذا أقول؟

هل أقول إن غزة عليها أن تغير اسمها لربما تفك هذه اللعنة التي ماتت العرافة قبل أن تعطينا طلسماً لنعرف على الأقل متى سينتهي هذا الموت، هل أقول لك إن غزة فقدت قدرتها على الفهم، وأنها نادت الله تسعمائة وثمانين مرة حتى هذه اللحظة، مع كل شهيد كانت ترسل الرسالة ذاتها، يا الله أنظر إليّ، وعلى ما يبدو أن السماء بعيدة لدرجة أن أول الشهداء لم يصل بعد، ماذا أقول؟

هل أقول إنني أنفجر أكثر عندما أسمع أن الاحتلال سيدفع ثمن جرائمه، فماذا سيدفع الاحتلال، أنا أريد ثمناً واحداً إن كان يستطيع أن يدفعه سأسامحه، أن يعيد إليّ كل الشهداء الذين ذهبوا منذ ست وستين عاماً، كاملين غير منقوصين، وأن يعيدهم كما كانوا، شباناً وبصحة جيدة، طافحين بالحياة، وقتها فقط سأسامحه، وسأجلس معه لنتفاهم على نوع الحياة التي علينا أن نعيشها… ماذا أقول؟

قل لي يا صديقي: ماذا أقول؟

يرد عليّ صديقي برسالة من جملة واحدة: كتبت لك عشرة ردود ومحوتها…

***

ظهرت النصوص أعلاه في مجموعة “في الحرب بعيداً عن الحرب” التي نشرت بأربع لغات غداة الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة عام ٢٠١٤.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *